فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه التوبة العامة من الله سبحانه هي التي يدل عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب} [المؤمن- 3] وقوله تعالى: {يقبل التوبة عن عباده} [الشورى- 25] إلى غير ذلك.
فتلخص مما مر أولا أن نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه وإزالة ظلمة المعاصي عن قلبه سواء في ذلك الشرك وما دونه توبة منه تعالى لعبده وأن رجوع العبد إلى ربه لمغفرة ذنوبه وإزالة معاصيه سواء في ذلك الشرك وغيره توبه منه إلى ربه.
ويتبين به أن من الواجب في الدعوة الحقة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشرك وتندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك والتوبة عن المعاصي.
وثانيا أن التوبة من الله سبحانه لعبده أعم من المبتدئة واللاحقة فضل منه كسائر النعم التي يتنعم بها خلقه من غير إلزام وإيجاب يرد عليه تعالى من غيره وليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلا إلا ما يدل عليه أمثال قوله تعالى: {وقابل التوب} [غافر- 3] وقوله: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون} [النور- 31] وقوله: {إن الله يحب التوابين الآية} [البقرة- 222] وقوله: {فأولئك يتوب الله عليهم} الآية من الآيات المتضمنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة والنادبة إلى التوبة الداعية إلى الاستغفار والإنابة وغيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام والله سبحانه لا يخلف الميعاد.
ومن هنا يظهر أن الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد ويرد ما يرد منها كما هو ظاهر قوله تعالى: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم} [آل عمران- 90] ويمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} [النساء- 137] ومن عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى: {في قصة غرق فرعون وتوبته حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ءالآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس- 91].
قال ما محصله إن الآية لا تدل على رد توبته وليس في القرآن أيضا ما يدل على هلاكه الأبدي وأنه من المستبعد عند من يتأمل سعة رحمة الله وسبقتها غضبه أن يجوز عليه تعالى أنه يرد من التجأ إلى باب رحمته وكرامته متذللا مستكينا بالخيبة واليأس والواحد منا إذا أخذ بالأخلاق الإنسانية الفطرية من الكرم والجود والرحمة ليرحم أمثال هذا الإنسان النادم حقيقة على ما قدم من سوء الفعال فكيف بمن هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وغياث المستغيثين.
وهو مدفوع بقوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا جاء أحدهم الموت قال إنى تبت الآن} الآية وقد تقدم أن الندامة حينئذ ندم كاذب يسوق الإنسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب ونزول البلاء.
ولو كان كل ندم توبة وكل توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة: {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} [سبأ- 33] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا والرد عليهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.
وإياك أن تتوهم أن الذي سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدم توضيحه تحليل ذهني لا عبرة به في سوق الحقائق وذلك أن البحث في باب السعادة والشقاء والصلاح والطلاح الإنسانيين لا ينتج غير ذلك فإنا إذا اعتبرنا حال الإنسان العادى في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم والتربية في الإنسان وجدناه خاليا في نفسه عن الصلاح والطلاح الاجتماعيين قابلا للأمرين جميعا ثم إذا أراد أن يتحلى بحلية الصلاح ويتلبس بلباس التقوى الاجتماعي لم يمكن له ذلك إلا بتوافق الأسباب على خروجه من الحال الذي فيه وذلك يحاذي التوبة الأولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنوية ثم انتزاعه وانصراف نفسه عما هو فيه من رثاث الحال وقيد التثبط والإهمال وهو توبه بمنزلة التوبة من العبد فيما نحن فيه ثم زوال هيئة الفساد ووصف الرذالة المستولية على قلبه حتى يستقر فيه وصف الكمال ونور الصلاح فإن القلب لا يسع الصلاح والطلاح معا وهذا يحاذي قبول التوبة والمغفرة فيما نحن فيه وكذلك يجرى في مرحلة الصلاح الاجتماعي الذي يسير فيه الإنسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الأحكام والآثار جريا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وثالثا أن التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدم من الآيات المنقولة وغيرها إنما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الإنسانية من حيث إصلاحها وإعدادها للصلاح الإنساني الذي فيه سعادة دنياه وآخرته وبعبارة أخرى التوبة إنما تنفع إذا نفعت في إزالة السيئات النفسانية التي تجر إلى الإنسان كل شقاء في حياته الأولى والاخرى وتمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة وأما الأحكام الشرعية والقوانين الدينية فهى بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية.
نعم ربما ارتبط بعض الأحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل وهذا غير كون التوبة رافعة لحكم من الأحكام قال تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما} [النساء- 16] وقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة- 34] إلى غير ذلك.
ورابعا أن الملاك الذي شرعت لأجله التوبة على ما تبين مما تقدم هو التخلص من هلاك الذنب وبوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح ومقدمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه قوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور- 31] ومن فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظا لروح الرجاء من الانخماد والركود فإن الإنسان لا يستقيم سيره الحيوى إلا بالخوف والرجاء المتعادلين حتى يندفع عما يضره وينجذب إلى ما ينفعه ولولا ذلك لهلك قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم} [الزمر- 54] ولا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعالة وجد في العزيمة والسعى ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة وإذا بدا له ما يخسر عمله ويخيب سعيه ويبطل أمنيته استولى عليه اليأس وانسلت به أركان عمله وربما انصرف بوجهه عن مسيره آيسا من النجاح خائبا من الفوز والفلاح والتوبة هي الدواء الوحيد الذي يعالج داءه ويحيى به قلبه وقد أشرف على الهلكة والردى.
ومن هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء بالمعصية وتحريصا على ترك الطاعة فإن الإنسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله والانغمار في لجج المعاصي والذنوب فيدق باب كل معصية قاصدا أن يذنب ثم يتوب.
وجه سقوطه أن التوبة إنما شرعت مضافا إلى توقف التحلى بالكرامات على غفران الذنوب للتحفظ على صفة الرجاء وتأثيره حسن أثره وأما ما ذكر من استلزامه أن يقصد الإنسان كل معصية بنية أن يعصى ثم يتوب فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة فإنها انقلاع عن المعصية ولا انقلاع في هذا الذي يأتي به والدليل عليه أنه كان عازما على ذلك قبل المعصية ومع المعصية وبعد المعصية ولا معنى للندامة أعنى التوبة قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل والتوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصود بقصد واحد مكرا وخديعة يخدع بها رب العالمين ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله.
وخامسا: أن المعصية وهى الموقف السوء من الإنسان ذو أثر سئ في حياته لا يتاب منها ولا يرجع عنها إلا مع العلم والإيقان بمساءتها ولا ينفك ذلك عن الندم على وقوعها أولا والندم تأثر خاص باطني من فعل السئ ويتوقف على استقرار هذا الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيئة الدالة على الرجوع والتوبة ثانيا.
وإلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعا من آداب التوبة كالندم والاستغفار والتلبس بالعمل الصالح والأنقلاع عن المعصية إلى غير ذلك مما وردت به الاخبار وتعرض له كتب الأخلاق.
وسادسا: أن التوبة وهى الرجوع الاختياري عن السيئة إلى الطاعة والعبودية إنما تتحقق في ظرف الاختيار وهو الحياة الدنيا التي هي مستوى الاختيار وأما فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كل من طريقي الصلاح والطلاح والسعادة والشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه وقد تقدم ما يتضح به ذلك.
ومن هذا الباب التوبة فيما يتعلق بحقوق الناس فإنها إنما تصلح ما يتعلق بحقوق الله سبحانه وأما ما يتعلق من السيئة بحقوق الناس مما يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها ألبتة لأن الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم وأعراضهم ونفوسهم وعد التعدي إلى أحدهم في شيء من ذلك ظلما وعدوانا وحاشاه أن يسلبهم شيئا مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه ويظلمهم بذلك وقد قال عز من قائل: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} [يونس- 44].
إلا أن الإسلام وهو التوبة من الشرك يمحو كل سيئة سابقة وتبعة ماضية متعلقة بالفروع كما يدل عليه قوله عليه السلام: الإسلام يجب ما قبله وبه تفسر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيئات جميعا كقوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} [الزمر- 54].
ومن هذا الباب أيضا توبة من سن سنة سيئة أو أضل الناس عن سبيل الحق وقد وردت أخبار أن عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضل عن الحق فإن حقيقة الرجوع لا تتحقق في أمثال هذه الموارد لأن العاصى أحدث فيها حدثا له آثار يبقى ببقائها ولا يتمكن من إزالتها كما في الموارد التي لا تتجاوز المعصية ما بينه وبين ربه عز اسمه.
وسابعا: أن التوبة وإن كانت تمحو ما تمحوه من السيئات كما يدل عليه قوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله} [البقرة- 275] على ما تقدم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب بل ظاهر قوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ومن تاب وعمل عملا صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} [الفرقان- 71] وخاصة بملاحظة الآية الثانية أن التوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان والعمل الصالح توجب تبدل السيئات حسنات إلا أن اتقاء السيئة أفضل من اقترافها ثم إمحائها بالتوبة فإن الله سبحانه أوضح في كتابه أن المعاصي كيفما كانت إنما تنتهى إلى وساوس شيطانية نوع انتهاء ثم عبر عن المخلصين المعصومين عن زلة المعاصي وعثرة السيئات بما لا يعادله كل مدح ورد في غيرهم قال تعالى: {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} الآيات [الحجر- 42] وقال تعالى: {حكاية عن إبليس أيضا في القصة ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف- 17].
فهؤلاء من الناس مختصون بمقام العبودية التشريفية اختصاصا لا يشاركهم فيه غيرهم من الصالحين التائبين. اهـ.

.تفسير الآية رقم (18):

قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين سبحانه المقبول أتبعه المطرود فقال: {وليست التوبة} أي قبولها {للذين يعملون السيئات} أي واحدة بعد أخرى مصرين عليها فسقة كانوا أو كفرة، غير راجعين من قريب، بل يمهلون {حتى إذا حضر} ولما كان تقديم المفعول- على وجه يجوّز كل سامع وقوعه عليه- أهول، لكونه يصير مرتقبًا حال فاعله، خائفًا من عاقبته قال: {أحدهم الموت} أي بأن وصل إلى حد الغرغرة، وهي حالة المعاينة {قال} أي بلسانه كفرعون، أو قلبه {إني تبت الآن} فبين أن ما قبل الاحتضار قريب مع الترغيب في المسارعة جدًا بالتعبير بقريب {ولا الذين} أي وليست التوبة للذين {يموتون وهم كفار} حقيقة أو مجازًا، من غير أن يتوبوا، ولا عند الغرغرة، فسوى بين الفسق والكفر تنفيرًا من الفسق لصعوبة النزع عنه بعد مواقعته، ولذلك جمعهما في العذاب بقوله- جوابًا لمن كأنه قال: فما جزاء هذين الصنفين: {أولئك} أي البعداء من الرحمة، الذين لم يتوبوا إلا حال الغرغرة، والذين ماتوا مصرين {أعتدنا} أي هيأنا وأحضرنا {لهم عذابًا} ولما كان تأخير التوبة لذة نفسانية ختم بقوله: {أليمًا} أي نعذب به الكافرين ومن شئنا من عصاة المؤمنين، لأن توبتهم في تلك الحالة عدم، والميت من غير توبة من المؤمنين في المشيئة. اهـ.